سارتر وسيمون علاقة ذات فلسفة خاصة
اقترن دائما ذكر اسم الفيلسوف والكاتب الفرنسي " جان بول سارتـر" في الأوساط الاجتماعية والفكرية باسم " سيمون دو بوفوار" رفيقة عمره وشريكة أفكاره ومع ذلك لم تكن سيمون دو بوفوار يوما ظلا للمفكر الشهير.
كتاب "علاقة خطرة"، لمؤلفه كارول سيمور جونز، يفتش في العلاقة البالغة الخصوصية والأقرب للشراكة الاستثنائية على مدى أكثر من 50 عاما بين جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار، بل ويمكن وصف الكتاب أنه من كتب السيرة الذاتية الرائعة عن اسمين تركا بصمات عميقة في الفلسفة الوجودية والفكر على وجه العموم سواء داخل فرنسا أو خارجها.
الكتاب، الذي صدر باللغة الإنجليزية ويقع في 320 صفحة، يكشف عن عديد من الوقائع الدالة منذ اللقاء الأول بين جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار عام 1929، عندما كانا في بداية الدراسة العامة للفلسفة ورغم أن سيمون كانت أصغر طالبة بين الخريجين فإنها جاءت التالية بعد سارتر وسعت لإقناع نفسها بقبول أسبقيته وهو شعور استمر داخلها طوال ما تبقى من حياتها.
تضيف الكاتبة أن الثنائي انتهجا، على مدى نحو خمسة عقود، أسلوب الشراكة المفتوحة بما أتاح لهما الشروع في علاقات عابرة وعرضية مع آخرين؛ فيما تذهب كارول سيمور جونز في كتابها إلى أن هذا النهج كان الإجابة الجذرية على ما اعتبر تقاليد الزواج البالية.
الكتاب يتناول أيضاً الانخراط المبكر لجان بول سارتر وسيمون دو بوفوار في دوامات الأفكار والفلسفات وكسر المحاذير المتعارف عليها في الأجيال القديمة، وبطريقة السرد المشوق الحافل بالنوادر والحكايات الطريفة والفضائح المخزية أحيانا الأمر الذي يبرر عنوان الكتاب: "علاقة خطرة"، وربما بسبب هذه الفضائح؛ شبّه الأديب والفنان المتعدد المواهب جان كوكتو السلوكيات البوهيمية للثنائي سارتر ودوبوفوار، بتصرفات الكلاب التي تقضم العظام وتبول تحت أعمدة الإنارة في الشوارع، ولكن من الذي بمقدوره أن ينكر أن هذا الثنائي المثير للجدل شكل علامة فلسفية من أبرز علامات القرن العشرين، كما يوضح هذا الكتاب الذي ينبض أحيانا بدقات مثيرة للتوتر.
تقول المؤلفة لإيضاح العلاقة بين التفكير الفلسفي لهذا الثنائي وممارساتهما الشخصية: "سعى الثنائي سارتر ودوبوفوار لابتكار سبل جديدة للحياة في عالم نظر له كعالم حافل بالشرور، وراودهما الأمل في الانعتاق من قيود المؤسسات البورجوازية". ولكن مؤلفة الكتاب تقول إن "سعيهما انتهى في الواقع لطريق معتم ومشروع متواطئ عبر شراكة استمرت 51 عاما وأفضى لنتائج قد لا تسر هؤلاء الذين يكنون إعجابا لما يسمى بنموذج العائلة السارترية".
وتضيف "على الرغم من أن سيمون دو بوفوار اعتبرت علاقتها بسارتر قصة نجاح غير قابلة للشك في حياتها؛ فإن كارول سيمور جونز سعت في كتابها لتمحيص هذه المقولة واختبار ما هو قابع تحت السطح البراق لهذه الكلمات"، "هذا المظهر المثير للإعجاب باندماج شخصين طواعية في كائن إنساني واحد وحلول كل منهما في الآخر، إنما كان على حساب سيمون دوبوفوار كامرأة لم تتزوج سارتر طوال حياتهما وعانت كخليلة له مهما بدت كلماتها براقة".
وإذا كانت سيمون دوبوفوار – كفيلسوفه- قد توحدت مع جان بول سارتر، فإنها كأنثى عانت من الكرب ونهشتها الغيرة والخوف المستمر من أن يتركها سارتر ويتخلى عنها دون رجعة ليستقر مع أنثى شابة أكثر جمالا وفتنة.
وفيما كانت سيمون دو بوفوار راديكالية التفكير والتصرفات؛ فإنها لم تخل من جنوح في بعض تصرفاتها مثل ميلها لركوب مترو باريس وهى ثملى للتقيوء بين الركاب؛ فإن جان بول سارتر لم يخل بدوره من غرابة الأطوار والممارسات الخارجة عن المألوف كما يروى هذا الكتاب الجديد .
ولم يكن كلاهما من المكترثين بمبادئ النظافة؛ حتى أن رفاق سارتر في المعتقل النازي إبان الحرب العالمية الثانية كانوا يغمرون فراشه القذر والذي يغص بالحشرات وهو نائم بالمبيدات الحشرية بينما يتذكر الذين عرفوا سيمون دو بوفوار رائحة عرقها النفاذة.
وعبر حياتها سعت سيمون دو بوفوار للتغلب على القيود الاجتماعية المفروضة عليها كامرأة، فيما تبدى مؤلفة الكتاب نوعا من التعاطف الواضح مع هذا التوجه وتصف مافعلته سيمون "بالمحاولة البطولية لكسر قالب القرن العشرين"، لكنها تؤكد ضمنا أن "دو بوفوار لم تتمكن أبدا من تحرير نفسها من كونها في نهاية المطاف امرأة للحب"، ولعل ذلك من أهم ما انتهى له هذا الكتاب كأحد أروع كتب السيرة الذاتية.
ويتطرق الكتاب لمسائل الاعتقاد ونمط الحياة التي عاشها سارتر ودوبوفوار، حسب الاعتقاد الوجودي بقدرة الإنسان على تجاوز الحدود والقيود التي تكبل وجوده الحر، فيما ركزت المؤلفة أحيانا على ما تسميه بـ"الاحتكاكات المسمومة" بين جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار مع تحليل مثير للإعجاب حول توأمتهما الفلسفية.
وتفسر كارول سيمور جونز ما تصفه بالميل غير المنطقي لجان بول سارتر نحو الاتحاد السوفييتي السابق، في مرحلة كان فيها سارتر قد بلغ حد النضج بعلاقة غرامية ربطت بينه وبين لينا زيونا التي ترجح أنها كانت عميلة لجهاز المخابرات السوفييتية "كي جى بى".
كما تفسر كارول حبه للشيوعية بأنه نوع من التعويض النفسي، معتبرة أن سارتر أحل الشيوعية محل المسيحية، غير أن محاولته للتوفيق بين دفاعه عن الحريات الفردية وبين الرؤية الماركسية للتاريخ لم تقنع أبدا نقاده ومن بينهم الكاتب والفيلسوف الوجودي الراحل ألبير كامو.
مؤلفة الكتاب تؤكد أن "محاولة سارتر للاحتجاج بضرورة الحكم على الشيوعية ينوياها ومآربها، لا بأفعالها وممارساتها، تبدو بشعة في ضوء الحقيقة المتمثلة في سقوط ما قد يصل إلى 30 مليون ضحية في معسكرات العمل الإجباري ومنافي سيبيريا أو ما يعرف بضحايا الكولاج أو أرخبيل العذاب السوفييتي".
وينتهي الكتاب إلى حقيقة يراها مؤلفه من المسلمات وهي أنه مهما كان حجم الاتفاق أو الاختلاف مع نموذج حياة الثنائي جان بول سارتر وسيمون دوبوفوار، فإن هذا الثنائي شكّل، بما لا يدع مجالا للشك، نوعا من الإلهام للأجيال التي عاصرت سارتر ودوبوفوار حتى رحيلهما في ثمانينيات القرن العشرين، بقدر ما يعيد الكتاب الجديد السؤال الهام عن التأثير الهائل للحياة الخاصة على الحياة العامة عندما يتعلق الأمر بأسماء لامعة تركت بصماتها العميقة في مجالات الحياة وعالم الفكر على وجه الخصوص.