محمود يس "الجندي المصري علي الجبهة".. حمل علي اكتافه حقبة سينمائية
رغم الشهرة الواسعة والمكانة المرموقة التي حظي بها, لم تسنح له الظروف بالكشف عن كامل امكاناته التمثيلية والتي ظهرت بجلال علي خشبة المسرح, حيث صال وجال وامتلك زمام الكلمة والتعبير والحركة وأعطي للأداء دروس جديدة لنجم سينمائي ذائع الصيت, شديد الرومانسية, وله طلة وكاريزما اسرتين.. أغلب الظن أن محمود يس رغم كل ما قدمه من أعمال كان يطمح في تقديم أدوار أخري في هذه المرحلة السنية, حيث يكتمل النضوج والخبرة والقدرة علي الاستمتاع بعيدا عن صراع النجومية التي احتلها وحده سنوات عديدة.
عندما يفكر السينمائيون في وجه مصري أسمر يعبر عن النكسة يكون محمود يس أول من يقع عليه الاختيار, وعندما يفعلونها ثانية في نصر أكتوبر فطبيعة الحال ووفق للمنطق هو ذاك الشاب الأسمر الذي يثأر لنفسه وشعبه ووطنه, ويرفع العلم المصري مرددا الله أكبر.. وفي الحالتين الاختيار ليس به شبهة مجاملة فملامحه تمثل قطاع عريض من شباب جيله, وحماسه وصلابته أمران كاشفان بقوة, حتي في لحظات المعاناة التي تعبر عن ما تكبدته الاجيال من ظلم وطغيان يأتي محمود يس ليلقي كلمته سواء السجن ظلما في "ليل وقضبان", أو البحث عن الحقيقة في "سونيا والمجنون", حالات تمثيلية شديدة التعقيد, تحتاج لامكانات ممثل عريض الموهبة, ومكتمل الأدوات.
محمود ياسين
حمل علي اكتافة حقبة سينمائية كونه فتي مصر الأول كما كان يلقب (80 فيلم في عشر سنوات), ولأنه يحمل ملامح مصرية صميمة وأصيلة كان العاشق المعترف به سينمائيا الذي يصدر مشاعر نبيلة وأحاسيس صادقة, لذلك كان يسيرا أن تسند لها البطولة أمام الجيل الذهبي للنجمات في اواخر أعمالهن, وهل كان يستطيع أحد من جيله أن يقاسم سيدة الشاشة بطولة ثلاثة أفلام (الخيط الرفيع -حبيبتي- أفواه وأرانب), وهو نفس الأمر الذي فعله مع شادية في (نحن لا نزرع الشوك- الشك يا حبيبي), أو ماجدة في (انف وثلاث عيون), وكذلك برلنتي عبد الحميد في (العش الهادئ), ونادية لطفي (الزائرة- قاع المدينة – علي ورق سلوفان) وسميرة أحمد (امرأة مطلقة) وهند رستم (أنا وابنتي والحب) وليلي طاهر (وثالثهم الشيطان), ونجاة (جفت الدموع), وفي مرحلة تالية فنانات جيله (سعاد حسني- نيللي- نبيلة عبيد- صفية العمري- نادية الجندي- فيفي عبده - مديحة كامل- نجوي ابراهيم- نجلاء فتحي- ميرفت امين – سهير رمزي- شهيرة- عفاف راضي) ثم جيل اصغر عمرا قليلا (نادية ذوالفقار- هويدا- هالة فؤاد- معالي زايد- هالة صدقي- يسرا – الهام شاهين- ليلي علوي).
محمود ياسين
من يلاحظ الاسماء يكتشف أنه وقف أمام ثلاث أجيال من الممثلات, أو بعبارة دقيقة استطاع أن يربط الاجيال ببعضها البعض, وكان في كل المراحل يملأ مكانه ويشع توهج ويفرض سيطرته علي العمل, من خلال تنوع الأدوار واختلافها, فمرة نراه المقاول فتحي في (الشريدة), وأخري العربجي أمام شويكار, والفتوة سليمان الناجي (الحرافيش), وعنتر الزبال (انتبهوا ايها السادة), والثوري مصطفي حسين في (علي من نطلق الرصاص), ويوسف القاتل الاجير(الوعد), ورئيس التحرير عزمي أبو العزم (الستات), والزوج المخدوع في (الجلسة سرية), والمرتشي (السادة المرتشون) ووكيل النيابة (امرأة من زجاج), والصعلوك (وكالة البلح), وتاجر المخدرات (الباطنية), ورجل المخابرات (الصعود إلي الهاوية), والميكانيكي (دندش), وعامل المجاري (بدور), والدكتور (انف وثلاث عيون), والمعلم (مع تحياتي لاستاذي العزيز), والمؤلف (اذكريني), والضابط والجندي (الوفاء العظيم – الرصاصة لا تزال في جيبي), والكثير الكثير من الشخصيات التي أجاد القدير محمود يس في تصديرها للمتفرج, ونال عنها الاستحسان والتقدير, والأمر لا يختلف في الاذاعة أو الدراما التليفزيونية, وكذلك المسرح, أنه فنان شامل عشق مهنة التمثيل وافني حياته في محرابها..
محمود ياسين
في مشاهده التمثيلية الأخيرة جسد دور "علي الحفني" تاجر المخدرات في فيلم (الجزيرة), ورغم أن مشاهده قليلة للغاية لكنها كانت تحتاج لطاقة تمثيلية وقيمة كبيرة, فكان الدرس الكبير في التمثيل للاجيال الجديدة, وفي مشهد استثنائي في تاريخه الفني بينما كان يواجه الموت يقول لأبنه (أنا خلاص بموت يا منصور.. بموت زي الناس ما بتموت.. عيان ومليش علاج.. وبعد شوية نفسي ينقطع.. وتحفروا لي حفرة وتنزلوني فيها.. خلاص مفيش حاجة تتعمل"..ربما ينقص الوصف من روعة المشهد الذي جسده القدير محمود يس, وأذكر أنه تلقي تصفيق حاد في قاعة السينما حينما شاهدته الجماهير, كان يعي أن الجيل الجديد هو الاحق بحمل الراية, ويؤكد أنه عندما صعد درجات النجومية كان يستلم الراية من الجيل الذي سبقه, ومن الأمانة أن يسلمها للجيل القادم, هكذا كانت أخلاق الفرسان النبلاء, الذين يؤدون دورهم في الحياة, ثم يسترحون ويلتقطون أنفاسهم التي كانت تلهث وهم يحققون أحلامهم.
ومثلما قام بربط التواصل بين الاجيال من النجمات, كان أيضا حلقة الوصل ما بين جيل الاساتذة من المخرجين الكبار بالجيل الذي تلاهم من الشباب في ذاك الوقت, حتي الممثلين الجدد الذين كانوا يخطون خطواتهم الأولي وقف بجوارهم ودعمهم بقناعة وايمان بموهبتهم وحقهم في أخذ فرص عادلة ليثبتوا أنفسهم.
يندر أن نجد في حوار صحفي مقولة للقدير محمود يس يسيء فيها لزميل أو لزميلة, كان عف اللسان, دمث الخلق, تجمعه علاقات انسانية بكل زملاءه صغارا وكبارا, في إحدي المرات وأثناء حصول نور الشريف علي جائزة أحسن ممثل من مهرجان القاهرة, قال في معرض تقديمه أشعر بالفخر أني أقدم الجائزة لزميل العمر .. تلك كانت اخلاقه.. وكان طبيعيا أن يلجأ إليه البعض للاستفادة من صوته المؤثر والمعبر والقادر علي الايصال في مناسبات عديدة, لعل اجلها هي القاءه خطبة الوداع في فيلم "الرسالة", كما شارك وردة بالقاء الشعر في (انشودة مصر), وقام بالأداء الصوتي لأشعار ومذكرات الرائد محمد بيومي.
محمود ياسين
بلغت أعمال محمود يس 150 عملا فنيا, وأكثر من 90 عمل اذاعي وتليفزيوني, و10 مسرحيات, تعتبر نجلاء فتحي أكثر ممثلة شاركته في أعماله السينمائية والتي بلغت أكثر من 20 عملا. تولي مدير المسرح القومي, وقام بانتاج 9 أعمال فنية.
في مسرحية "عودة الغائب" كان اوديب أو محمود يس المهموم بالحكم والنسب يقدم مونولوجه الخالد الملئ بالانفعالات, المشحون بردود الأفعال المتباينة والصادم, وهو يزيح الستار حول الحقيقة التي تعجل بنهايته, عندما يعترف بقتل أبيه, وكشفه لأمه خطيئة الفراش, أنفاسه لاهثة, عرقه يتصبب, قلبه ينبض, اطرافه ترتعش, عينه زائغة, وفكره مشتت, حالة من الانهيار والانكسار يجسدها بلياقة تمثيلية عالية وذهن متقد..
ابتعد محمود يس في سنواته الاخيرة عن الفن نتيجة مرضه الذي لازمه حتي وافته المنية, سيبقي اسم محمود يس في جدارية الفن مضيء وهاج يدلل علي الاصالة والرقي والأعمال العظيمة التي ستظل في أذهان الجماهير.
محمود ياسين