جولولي

اشترك في خدمة الاشعارات لمتابعة آخر الاخبار المحلية و العالمية فور وقوعها.

سمعة" مازال نمبر وان.. يعيش في قلوب الصغار والكبار من السويس إلي القاهرة رحلة المجد والدموع

الاربعاء 18 نوفمبر 2020 | 11:51 صباحاً
اشرف بيدس
5321
اسماعيل ياسين

"أهو أنا .. أهو أنا.. ولا حد يقدر إلا أنا.. شكلى صحيح ملوش دوا.. لكن اختصاصى فى الهوى" .. لا يستطيع أحد أن يغنى تلك الكلمات سواه.. إنه إسماعيل يس، الحالة الاستثنائية والجميلة فى تاريخ الفن والتى لم تتكرر مرة أخرى بتفاصيلها وملامحها وقفشاتها ومواقفها .. إسماعيل يس مرة واحدة فى العمر.. ولا يمكن وجود نسخة أخرى تحمل تلك الملامح الفريدة من نوعها.

اسماعيل ياسين

ورغم ان الرائحة يفوح منها عطر الفكاهة، تبدو التفاصيل شديدة القسوة، لرجل أفنى حياته لإسعاد الناس، إنه واحد ممن حفروا فى الصخر، وصنع تاريخه دون مساعدة أو وساطة، الموهبة فقط هى ما تسلح به، رحلة طويلة من القاع إلى القمة، بدأت من ارصفة الشوارع حتى تُوّج كأشهر كوميديان فى مصر والشرق، وذاع صيته ليملأ الدنيا، ويصبح صاحب الرقم القياسى فى عدد الافلام (أكثر من 400 فيلم)، حتى وصل به الأمر فى عام 1957 إلى أن يتصدر اسمه 18 افيشا سينمائياً، وهو رقم غير مسبوق فى تاريخ السينما العربية والعالمية، ومن الصعب أن يتم تجاوزه بأى حال من الأحوال. تبدو مفارقة غريبة أن يكون الشخص الذى أسعد ملايين الأطفال عاش طفولة بائسة، ففى مدينة السويس ولد فى 15-9- 1912، وفى سن التاسعة توفيت أمه، وصادف والده سوء الحظ فى تجارته، ليجد نفسه وحيدا مضطرا للعمل ليسد جوعه متنقلا من مهنة إلى أخرى، لكن ظل الفن هاجسه ومبغاه وإن حالت ظروفه التعسة من أى رفاهية ينعم بها أقرانه، فكان عليه ان يمشى المشوار من أوله، لا يملك زاداً ولا زواداً، صارع الدنيا وصارعته، ارتمى فى حضنها فلفظته، وظل سعيه وإيمانه ومثابرته أشياء لم تقبل الانكسار، حاول أن يجد لنفسه مكانا، تصدى لكثير من الهجوم والسخرية ما فاق حدود البشر.. تحامل وواصل طرق الأبواب التى كانت مغلقة دوما، فكانت القاهرة قبلته، هرباً من ذكريات مريرة، يلتحق بكازينو بديعة مصابنى بعد جولات شاقة من الغناء فى الافراح، ويبدأ الغيث فى السقوط، وتلتقطه السينما بدور صغير فى فيلم «خلف الحبايب» عام 1939، ثم تتوالى أدوار أخرى بعد ذلك، ويتردد اسمه هنا وهناك ويشغل حيزاً من اهتمامات الجماهير التى كانت شغوفه لفنان خارج السياق يأتى بالأشياء غير المألوفة ولا يتوقع ردود أفعاله، شخص يخاف من خياله ويرتعد من صدى صوته، ورغم ذلك يواجه «ريا وسكينة» و«فرانكشتين» و«عفريت المصباح والأشباح والمومياوات والغوريلات والعصابات» وينتصر عليهم جميعا، ويقدم أول وآخر مشهد فى السينما لرجل يقوم بعملية ولادة متعثرة.

اسماعيل ياسين

برحيل نجيب الريحانى وتوقف على الكسار عن البطولات السينمائية أصبحت الساحة ممهدة لاستقبال نجم جديد يلعب فى هذا الفراغ الذى تركه هذان العملاقان، وبالفعل ينزل "سمعة" الملعب ويحتل المشهد الكوميدى بأدوات وقدرات تختلف عمن سبقوه، وهذا ما جعله يرسخ أقدامه ويزيد من شهرته، إضافة لبراعته فى إلقاء المنولوجات (أكثر من 300 منولوج) التى لاقت هوى عند الجماهير، ويصبح صاحب الفضل فى عدم اندثار هذا الفن الذى مازالت الجماهير تتذكره عند مشاهدة فيلم من أفلامه.

عندما أنتج أنور وجدى له فيلم «المليونير» 1950 أمام الفاتنة كاميليا، كان يدرك جيداً بحسه الفنى والتجارى أنه صفقة مضمونة 100%، فالمغامرة والمقامرة ليس لهما مكان فى حساباته، وبالفعل ينجح الفيلم نجاحاً كبيراً ويقدم فيه ثلاث من أشهر منولوجاته مع سعاد مكاوى، والغريب فى الأمر أن هذا النجاح الكبير، والبطولة الأولى لم يتم استثمارهما على الوجه الأكمل، ليعود مرة أخرى للادوار الثانية وهو أمر شديد الغرابة لم يتكرر مع أحد من قبل، وفى عام 1955، ينتبه مرة أخرى فطين عبد الوهاب لموهبته ويقدمه فى سلسلة هى الأشهر فى تاريخ السينما (إسماعيل فى الأسطول، والجيش والبوليس)، وكان الغرض منها التعريف بالمؤسسات العسكرية للثورة، ولم يكن هناك خير منه لهذه المهمة التى قبلها عن طيب خاطر رغم ما كبدته من معاناة وجهد، حتى عندما تمت الوحدة ما بين مصر وسوريا أنتجت السينما فى ذلك الوقت ما عرف بـ «إسماعيل يس فى دمشق».

اسماعيل ياسين

وتتوالى سلسلة الأفلام التى تحمل اسمه لتصل الى 15 فيلما. حاول المنتجون استثمارها بجميع الطرق، حتى المؤلفين لم يجهدوا أنفسهم فى البحث عن موضوعات تلائمه واستسهلوا الأمر معتمدين على اسمه، فكانت «إسماعيل يس للبيع والإيجار» وغيرها . بين ليلة وضحاها تغيرت الحال وراحت تنهال عليه العروض السينمائية دون توقف، وكأن الساحة خلت من النجوم فى وقت عجت بفطاحل وأباطرة لن تسمح المساحة بحصر القليل منهم، وأصبح القاسم المشترك فى العديد من الأعمال، ضحكت له الدنيا وأغدقت عليه من الشهرة والمال الكثير بعد طول معاناة وحرمان، وإذا كان الرجل لم يدخر شيئا للزمن، فهو أيضا لم يدخر وسعا فى صرف كل ما كان يكسبه أولا بأول، ربما لتعويض تلك الأيام العجاف التى ذاق فيها مرارة الحاجة والسؤال والجوع، فكان يقبل كل ما يعرض عليه سواء تناسب مع نجوميته أو كان أقل من المستوى، والمؤسف أن الكثير كان دون المستوى، ولم ينجح فى استثمار جماهيريته، لانه اقتصر تعامله على أشخاص بعينهم، وجعل من نفسه وبارادته كعكة يتسابق الجميع لالتهامها، واستثمر المخرجون والمنتجون نجاحاته ودأبوا على تكرارها دون تطوير، وظل إسماعيل يس يؤدى بطريقة نمطية، لم تتغير طيلة ثلاثين عاماً، الحركات والايماءات والقفشات نفسها، ومع الوقت اصبحت ادواره صورة بالكربون من مثيلاتها إلا فى حالات نادرة جدا وتعد على أصابع اليد الواحدة، حدث كل هذا بعد أن التف الحبل حول موهبته، فى الوقت الذى كانت تشهد الساحة حراك جيل جديد من الكوميديانات وهم (عبد المنعم مدبولى وفؤاد المهندس وامين الهنيدى ومحمد عوض) وكثيرون غيرهم، وباشكال وقدرات مختلفة، فقلما تجد صفات متشابهة بينهم، وجاء هذا الاجتياح الكوميدى لينسف الشكل القديم وتبدأ مرحلة جديدة لم يكن له مكان فيها. والمحزن ان أول من استفاد هم اول من تركوه وراحوا يبحثون عن وجوه جديدة تناسب الزمن الجديد.

اسماعيل ياسين

ان خفوت توهج إسماعيل يس وانحسار الاضواء عنه لا يمحى تاريخه، فالتغيير سمة الحياة ، لقد عاش فى زمنه وكان الاول، ورغم ظهور اباطرة للكوميديا ظلت مكانته فى قلوب الجماهير لم تتغير، لانه كان صادقا فيما يقدمه - سواء اختلفنا او اتفقنا- تحلقت حوله الناس واحبوه، سعى قدر جهده ان يكون نفسه، بملامحه الكاريكاتورية من كثافة الحاجبين وجحوظ العينين وضخامة الانف واتساع الفم والتى أخفت وراءها سريرة طفولية ونقاء انسانيا، وبراءة غير مصطنعة وردود أفعال من الاشياء المفزعة والمقلقة تشابهت مع ردود فعل الصغار، وربما هذا الخيط الرفيع هو ما جعل الاطفال يرتبطون به واعتبروه واحدا منهم، غير انه لم نجده يمرر لفظا يخدش الحياء أو يؤدى مشهدا مثيرا يتضمن احضانا او قبلات، كان يعى بفطرته حدوده ولم يحاول تجاوزها، قد يظن البعض انها البلاهة، ولكنها ليست كذلك فأى بلاهة تلك التى تجعله يعيش كل هذه السنوات؟ وكيف لنا نحن الاذكياء ان نحتملها؟ ورغم انه من أكثر الفنانين الذين تعرضوا للهجوم والنقد، تثبت الأيام إن كل هذه الصفحات التى سطرت لمهاجمته ذهبت مع الريح، وبقى هو يتربع فى قلوب محبيه.

اسماعيل ياسين

وإذا كانت السينما قد ادارت ظهرها بعد سنوات كبيرة من العسل، فأن المسرح لم يكن أحسن حالا وبدأت ستائر البهجة تسكب الوانا رمادية، وراحت فرقته التى كونها مع أبو السعود الابيارى تنهار بعد اشتداد مرض النقرس عليه، وانتقاله إلي مستشفي المواساة للعلاج، لكن العلاج طال الامد به لأكثر من عام، وكان من الصعب الوقوف علي المسرح ثلاثة ساعات متوالية نظرا للآلام الشديدة التي كانت تداهمه، ثم أعقب ذلك اصابته بمياه علي الرئة، ليغلق المسرح أبوابه التي ظلت مفتوحة مخلفا 51 مسرحية منذ 1954 وحتى 1996 وشهدت وقوف نجوم كبار على خشبته امثال محمود المليجى وتحية كاريوكا وشكرى سرحان واستفان روستى وعبد الوارث عسر وحسن فايق وزينات صدقى، ويظهر مسرح التليفزيون بدعمه الحكومى ليلفظ مسرحه انفاسه الاخيرة.

اسماعيل ياسين

ولم يسجل التليفزيون من اعماله سوى القليل، تم الاستعانة باشرطتها لتسجيل مباريات كرة القدم، اغلب الظن انها كانت بلا اهداف، والبعض الآخر لحفلات غنائية تم تسريبها للمحطات الفضائية. ان الحاجة هى التى دفعت إسماعيل ياسين فى اخريات ايامه ليعمل بشارع الهرم حتى يسد حاجيات اسرته، وراح يعيد منولوجاته التى اسعدتنا على اناس اغلب الظن انهم اتوا ليشاهدوا احتضاره الاخير بعد سنوات من الكفاح استطاع ان يصل الى القمة بعد ان ذاق فى القاع كل مرارات الحرمان، وربما كان تواجدهم بفعل التباهى بتاريخه العظيم ورؤيته، ولم تفلح نظرات الاشفاق الخادعة التى كانت تزول مع انتهاء فقرته، فرغم ان إسماعيل يس اخذ على عاتقه امتاعنا واضحكنا فأن وفاءنا كان عظيما وجعلناه يموت حزينا كئيبا ومفلسا، ولكن ذلك لم يشوه تاريخه، فهناك إسماعيل ياسين واحد فقط فى الحياة.

اسماعيل ياسين