أحمد زكي وأبجدية التمثيل
واستغراب جمع كبير من الهواة والأكاديميين علي حد سواء, بعد أن كانت مجرد سطور نظرية استعصت علي الكثير من اخضاعها والتفاعل معها.
استطاع أحمد زكي بعبقرية اكتست بالفطرة وامتلأت بالموهبة أن يصنع في مزج نادر غير متكرر ثالوث متنافر لم تتحد عناصره من قبل, والذي شمل فروع الثقافة (الراقية – الشعبية- الجماهيرية) دون أن ينتقص من احداها أو يجور بفعل الانصهار علي الاخري, وكأنه كان يعي أن يصل للجميع في توقيت واحد وكيفية لا تتهم بالطبقية.
إذا كان التمييز يزيل الغموض ويوضح الرؤية للشيء فيجعله متوهجا جاذبا الانتباه إليه دون لغط أو تشويش, فإن التميز يفرد الشيء عن أشباهه ويعزله ليبدو منفردا بمقومات وقدرات خاصة لم يلحق بها الآخرين.. وقد كان أحمد زكي نموذجا صارخا ومفعما بالتميز والاجادة جعلت واحد من أكبر نجوم هوليود "روبرت دي نيرو" يتوجه إليه بعد عرض فيلم "زوجة رجل مهم " في مهرجان موسكو عام 1988 ليقول له you are excellent actor ( انت ممثل ممتاز).
كان عسيرا علي أحمد زكي أن يذيب مسافات شاسعة من النمطية ائتلف الناس عليها وأدمنوها، حاول أن يحفر لنفسه طريقا يستطيع أن يسير فيه دون أن تلاطمه الأمواج أو تتمكن منه الدوامات, لم يكن أمامه خيار سوي السباحة ضد التيار، وفي الاتجاه المعاكس، لم يكن يحتمي إلا بموهبته وإصرار من الفولاذ علي اجتياز كل العوائق التي تحول بينه وبين ما يؤمن به.
عشق النحت لكنه لم يكن يحمل أزميل، فكانت الرحلة الطويلة شاقة ومرهقة، لم يستسلم للإغراءات وظل وفيا لنفسه ولفنه، عندما كان يحلق في أدواره لم يكن يستثني عشاقه، بل صحبهم معه في رحلات إبداعه، ولأنه ابن بيئته ومعجون في مشاكلها فقد عرف كل واحد منهم، وعبر عن طموحاته.. إن أحمد زكي المهموم بالبسطاء، كانت لديه دائما رؤية مغايرة ومختلفة عن الآخرين، ولأنه ممثل استثنائي، حاول بشغف الفنان أن ينحت شخوصه من الداخل، دون تعريتها أو فضحها؛ ليكسبها حيوية ويكشف عن الأماكن المظلمة بها، فكان العامل، الجندي، الفنان، الطالب، الوطني، الصعلوك، الضابط، الميكانيكي، الحلاق، السائق، المخرج، الدكتور، المدرس، الصايع، الطبال، المدمن، المحامي، الفتوة، الملاكم، الحداد، التاجر، الموظف، البلطجي، المثقف، البواب، الحرامي, المهرب، المهندس، الهلفوت، الصحفي، الدجال، الهارب، السجين، السايس، تاجر المخدرات، المغني، المصوراتي، رجل الأعمال، الوزير، الرئيس، العندليب، وكل هذه الشخوص لم تكن عابرة بل نسجت علي وتر انفعالاته المشدودة، وظلت داخله تعطيه أيضا القدرة علي التنوع والتدفق اللا محدود.
فنان يحمل وهجاً لا ينطفيء، ودائما في الصعود، ملأ سينما السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات بأعمال تحمل قيمة، وعلي رغم تنوعها وثرائها، إلا أنه في كل عمل كان حالة مستقلة ومتفردة، يملك تدفق تمثيلي ومخزون إبداعي مكناه من التجوال بحرية ودون معاناة في مناطق ملغومة يخشي الكثيرون الخوض فيها، لكنه أجاد الاختراق والإقدام دون شبهة التكرار، ليثبت لنفسه ولجماهيره بأحقيته ليكون ألفة جيله.. رصيد حافل ومتنوع بلغ 58 فيلما, و5 مسرحيات و4 مسلسلات، لعب أدواره بكل حواسه وخلجاته، يديه، عينيه، شفتيه، ردود أفعاله السريعة والبطيئة، عصبيته، هدوئه، لحظات تأمله وكبته، فرحه، حزنه، سكن بفن التمثيل، ورغم ذلك فهو لا يتشنج ولا يبالغ، وتنضح تلقائيته وعفويته علي كل مشاهده، يمثل مدرسة جديدة في الأداء، لا يقلد ولا يقلد، حالة خاصة وفريد, لها أتباع ومريدين وتلاميذ وأحيانا دروايش, لم يكن يتعامل مع شخصياته من باب الحرفة، فقد كان حريصا علي أن يصاحبهم ولا تنقطع علاقته بهم، فهو دائما ما كان يترك شخصية إلا ويترك بعضا من نفسه عليها, وفي الأغلب تترك الشخصية بعضا من نفسها عليه.
إن أحمد زكي الظاهرة مازال في حاجة إلي دراسات كثيرة لتحل لنا تلك المعادلة المستعصي فهمها، والتي تزداد تعقيداتها عند كل دور جديد، فعبقريته الأدائية وموهبته المتشعبة وحضوره الطاغي الملهم مازال يلفهما الغموض..ظل أحمد زكي يبحث دائما عن حياته داخل أدواره التي يقوم بتجسيدها علي الشاشة، في محاولة لإيجاد نفسه والتعرف عليها، واكتشف في خضم هذه الرحلة القاسية التي عاني فيها آلام القلق والبحث المتواصل أنه مصاب بمرض الفن، فأدرك أن شفاءه سيظل مرهونا عند لحظة توقفه وانحساره، لذا جاءت جولاته المتوالية علاجا عبقريا لحالته المتردية.
عندما ولدت السينما الواقعية الجديدة في الثمانينيات لم يجد محمد خان، وخيري بشارة، وداود عبد السيد، وعاطف الطيب، وشريف عرفة، غير أحمد زكي ليعبر عن هؤلاء الكادحين الهامشيين الغارقين في الحياة، وليجسد آمالهم في سينما جديدة تحمل كثيرا من المعاني، قليلا من الرتوش، سينما تحمل ملامح فروسية ضن الزمان بها، وتكشف عن واقع مرير ومناطق لم ينتبه إليها أحد من قبل.. إنه ذلك النوع الذي عندما يراه المشاهد وهو يلعب شخصية «السادات» ينسي تماما شخصية «عبد الناصر» والعكس، القدرة علي الانغماس في الشخصية، تساعد المتلقي علي عدم الخلط بين شخوصه، لا يملك سوي الصدق الذي يجعله ينتقل من منطقة إلي أخري بكل مشتملاتها دون أن ينتقص عنصر من عناصرها, وتجسيده لهاتين الشخصيتين يمثل قرار بالانتحار, لكن المحاولة تمد في عمره التمثيلي سنوات من التفرد.
لسنا في حاجة لمناسبة لكي نكتب عن أحمد زكي ذلك العبقري، الظاهرة، والحالة الفريدة التي أدهشت الكثيرين، ومازالت تستثير دهشتهم، سيظل أحمد زكي موضوع اجباري في مادة التمثيل, ودرسا مقررا مذاكراته اجبارية, فلا يخلو امتحان من سؤال عنه, يتصدر كل الكتب المقررة في مختلف الصفوف الدراسية, لأنه يمثل المدد والدعم لكل الساعين والحالمين بتغيير واقعهم أو اضفاء لمسات جمالية وعبقرية تشع بالايجابية وتدحض العدمية والسلبية, وسنظل نعدد مزاياه دون كلل, فلا نملك رفاهة المنع أو الاحجام طالما بقي الفن.