الشر والبلطجة في السينما
في خمارة "بحري"، يدخل بائع الجمبري من بابها المروحة, فيتكشف المشهد ويتسع, يظهر الصيادون والحرفجية يحتسون الشراب, بينما اتخذ المعلم "عرفان" ومساعده ركنا في نهاية الخمارة ليبدو المشهد بالكامل أمام أعينهم, الجميع ينصت للمغنية التي تلهبهم بصوتها ودلالها:
من دمع عيني رويت السنط في بؤونة
وأقل منا يا عين من بدري سبقونا
وإحنا بقينا على اللي العمر ما باقونا
دورنا ع البخت قولنا نشتريه بالمال
أتاري عمرك يا مال .. ما تعدل اللي مال
العوض على الله
يدخل الصول "خميس" بزيه الميري, فيرتات "عرفان" ومساعده, يلقي "خميس" نظرة اعجاب علي المغنية التي تبادله التجاوب, لكنه يعتدل ويصرف الأمر عن ذهنه, يحاول أن يسحب كرسي للجلوس عليه, فيفاجأ بمساعد المعلم يجذبه من أمامه.
الرجل: لا مؤاخذة يا فندي الكرسي ده بتاعي
(يحاول أن يجلس في مكان آخر, لكنه يتفاجأ للمرة الثانية بالمعلم عرفان الذي يجلس في هذا المكان)
عرفان: ده مطرحي أنا
خميس: تسمح تقوللي نقعدوا فين؟
عرفان : مش ضروري تقعدوا, البدلة دي ليها احترامها.. ليك مزاج تشرب كاس سيبها في بيتكم والبسلك بنش.. اجبلك ازوزة
خميس: اجيبلك أنا قهوة سادة
عرفان: ظريف اووي كلامك بينقط سم.. اتهوي.. شوف لك دورية راجعة روح فيها
تمر لحظات قليلة حتي تنقلب الخمارة رأسا علي عقب وتبدأ الخناقة الذي ينتصر فيها بالطبع "خميس", هذا المشهد من أكثر مشاهد السينما شهرة, ومن ذهب لسينما الترسو أيام ما كانت هناك سينمات درجة تالتة, يدرك حالات الصياح والهياج التي كانت تنتاب الجماهير مع طلة فريد شوقي.
مع مرور السنوات تغيرت مفاهيم الشر والفتونة والبلطجة في السينما المصرية, ليس من حيث الشكل, لكن المضمون أيضا, حيث اتبعت أعلي تكنيك حركة من مطاردات وتفجيرات واشياء كثيرة استحدثت, واستحوذت التقنية علي الأمر, حتي أنه أصبح هناك متخصصين يتم استقدامهم لتنفيذ هذه المشاهد, حتي أن الشرير خلع الجلابية والصديري, وتخلي عن نظراته الحادة, وارتدي الكاجوال, وأصبح أكثر ثقافة ووعيا ودهاء, واعتمد علي ذكاءه أكثر من عضلاته, وفي بعض الحالات علي خفة الدم وهو عامل مشترك في كل الاجيال.. لكن الملفت أن الفتونة والشهامة تراجعت بعض الشيء, واستبدلتا بالبلطجة، فالأول تأخذه الشهامة للدفاع عن المظلومين من البطش والظلم الذي يتعرضون له، واحيانا يتم اللجوء إليه نظير المساعدة والعون، والثاني يهوي الشر من باب الشر ويغالي في أفعاله دون مبررات بغرض معابثة الجماهير واستمالاتهم وربما استفزازهم, لضمان المشاهدة والمتابعة.
اهتمت السينما بتقديم أفلام سينمائية رصدت من خلالها هذه الشخصية، واقتربت من ممارساتها وطقوسها، ولم يكن من اليسير الكشف عن كل هذه الحالات التي تم تقديمها علي الشاشة، لذلك سنحاول قدر المستطاع، أن نشير إلي من أجادوا في تجسيدها في مرور سريع وخاطف، أثناء متابعتنا لاحظنا أن وجود البلطجي كان يستدعي بالضرورة وجود راقصة أو مطربة أو فتاة بائسة لا حول لها ولا قوة، أحيانا «لتسريحها» وأحيانا أخري «لابتزازها» والغريب أن معظم الحالات التي تم التعرض لها، لم نلحظ وجود أي عاطفة تربط بين هذا البلطجي وتلك البائسة، رغم أن معظمهن كن يتمتعن بالجمال, والأغرب أن معظم البلطجية كانوا يقومون بصرف ما يتحصلون عليه علي «ساقطات» اقل جمالا وخفة ودلالا!!
لابد أن نسجل أن كل النجوم الذين جسدوا أدوار الشر علي الشاشة اكتسبوا شهرة كبيرة وانتشارا واسعا، حتي عندما حاول البعض تغيير جلده، بقبول أدوار أخري، لم يحققوا ما ظفروا به، أو علي الأقل لم يحصدوا ألق الشر, والاستثناءات قليلة (زكي رستم ومحمود المليجي), والجدير بالملاحظة أيضا أن الجماهير لم تفصل بين هؤلاء النجوم وبين أدوارهم وظل هناك ربط ما، ربما هذا يفسر مدي اتقانهم وتميزهم الذي لم يملك الناس معه خيطا رفيعا يجعلهم يفصلون بين الواقع والخيال.
خمارة
يطالعنا عبد العزيز خليل (مدبولي) في وقت مبكر في فيلم «أحمر شفايف» 1946 للمخرج ولي الدين سامح، عندما يقوم باستغلال سامية جمال «قمر» والسطو علي راتبها، ثم يأتي عبد المنعم اسماعيل (المعلم حنفي) في فيلم «لهاليبو» 1949 للمخرج حسين فوزي، مبتزا نعيمة عاكف «إلهام» حتي لا يكشف امرها أمام جدها، ورغم أن الأدوار كانت قصيرة إلا أن القائمين عليها ابلوا بلاء حسنا، رغم أن من قاموا بها غير معروفين للجماهير.
لاشك أن دور «البلطجي» اختلف باختلاف الزمن الذي تواجد فيه، كما أنها كأي مهنة طرأت عليها تغييرات شكلية وسلوكية، إلا أن فترة الأربعينيات والخمسينيات ظلت متشابهة، ربما لأن التربة التي نشأت وترعرعت فيها لم يحدث لها أي تغييرات جذرية, واحتفظت الطبقة الوسطي بسماتها ولم تصطدم بتغييرات اجتماعية وسياسية مثلما حدث فيما بعد، فقد نشأ البلطجي في الاحياء الشعبية والملاهي الليلية وبيوت الدعارة، أما المجتمعات الراقية فكان الشر محدودا ومن أهل الطبقة, ربما لنفوذ ساكنيها وسطوتهم، فدائما البلطجي يسعي للأماكن التي يتواجد فيها الضعفاء ليمارس عليهم جبروته.
أرسي استفان روستي مفاهيم ادائية جديدة وصارمة أحيانا, وفي الحالتين كانت شديدة الخصوصية, وكأنه الوكيل المعتمد لأدوار الشر, وقد حاول أن يضفي علي الادوار التي اسندت لها مزيد من التميز, والحق أنها كانت سطحية, لكنه اضاف لها العمق وخفة الظل من خلال عباراته المشهورة ولم يخضع للنمطية, وإذا كانت أكثر أدواره شهرة وجماهيرية "ابو العز" في (قطار الليل -1953) لا نندهش عندما نعرف أنه كاتب السيناريو والحوار.
في عام1954 يقدم فريد شوقي شخصية «خليل البونو» في فيلم «عزيزة» والذي يفرض سطوته علي عزيزة محاولا ابتزاز ما تكسبه من عملها، وتوفيق الدقن بأظرف بلطجي تجسد علي شاشة السينما وذلك من خلال فيلم «أحبك يا حسن» للمخرج حسين فوزي عام 1958، فلا أحد ينسي شخصية «عبده دنس» ذلك الصعلوك الذي لا يملك من القوة سوي لسانه الذي يطلقه في وجه ابناء منطقته محاولا ابتزازهم، ولأن الشخصية ثرية مغرية يتخلي واحد من فتيان الشاشة الاوائل عن أدواره المعهودة ويقدم شخصية «البلطجي» عندما قدم كمال الشناوي شخصية «عباس أبو الدهب» في فيلم «المرأة المجهولة» عام 1959، أمام شادية ليتحول الحبيب فجأة إلي مبتز، وفي ذات العام يخطو رشدي اباظة الخطوة ذاتها بتغيير جلده مع المخرج عز الدين ذوالفقار في فيلم «الرجل الثاني» بشخصية «عصمت كاظم» في فيلم «الرجل الثاني»، وقد تطور أداء دور البلطجي، ولم تعد عضلاته هي السبيل لتحقيق أحلامه، ويفعلها مرة أخري يوسف شعبان في شخصية «فرج» من خلال فيلم «زقاق المدق» عام 1963، لكن الدور الفارق كان علي يد البرنس عادل أدهم في فيلم «امتثال» عام 1972 للمخرج حسن الإمام أمام ماجدة الخطيب، عندما قدم شخصية «فؤاد الشامي» وهي شخصية حقيقية لبلطجي في شارع عماد الدين حاول ابتزاز الراقصة «امتثال فوزي» لكنها لم ترضخ له وقاومته حتي انتهي الأمر بمصرعها, وكذلك "حاتم" في (الأشرار)، وما يهمنا في هذا الصدد أن نؤكد أن عادل أدهم أدي الشخصية بأداء متميز وغير مسبوق، لقي استحسان عند الجماهير والنقاد، مستخدما عبارات وألفاظا خاصة جدا ظلت مرتبطة بأدائه في أعمال كثيرة منها «حافية علي جسر من الذهب، لقاء مع الماضي، حكمت المحكمة» وعبقريته تمثلت ايضا في النفاذ بالشخصية إلي الجماهير رغم عنفها ودمويتها.
خمارة
هناك أيضا صلاح نظمي وغسان مطر ومحمد صبيح, والاسطي محمود المليجي الذي جسد الغالبية العظمي من أدوار الشر, اتسمت بالنمطية في بعضها, والتميز والاتقان في البعض الاخر (موعد مع ابليس, المنزل رقم 13, ابن النيل), وكان فريد شوقي يمتهن نفس الوظيفة في بداياته الفنية ثم تحول للنقيض, ويلعب زكي رستم في مضمار الشر ويسجل ارقاما قياسية من البراعة والاتقان بمستويات اجتماعية مختلفة وأنماط متعددة.
لكن قائمة أدوار الشر تحوي العديد من الاسماء قديما وحديثا عباس فارس, سعيد خليل, فؤاد الرشيدي, عبد الغني قمر, محمود فرج, محموح السباع, محمود اسماعيل (سلطان), وجميل راتب أيضا امتار اداءه بالتجديد والتطوير (علي من نطلق الرصاص- الصعود الي الهاوية).
في الثمانينيات وتحديدا في 1983 قدم نادر جلال فيلمه الشهير «خمسة باب» والذي جمع بين نادية الجندي وعادل إمام، ليقدم فؤاد أحمد شخصية «الكابتن عباس» البلطجي الذي يفرض سطوته علي بيت من بيوت الدعارة ويبتز الساقطات بأخذ اتاوة نظير حمايتهن، وهو ذات الدور الذي جسده باقتدار «سيد زيان» في شخصية «جلال» في فيلم «شوارع من نار» للمخرج سمير سيف عام 1984، وفي 1986 ومن خلال فيلم «التوت والنبوت» للمخرج نيازي مصطفي نري حمدي غيث في شخصية «المعلم حسونة» والذي يتحول من فتوة إلي بلطجي يفرض الاتاوات ويمارس سطوته علي الحرافيش والفقراء من ابناء الحي0
تطور الأمر في أوائل التسعينيات عندما قدم المخرج طارق العريان الفنان محمود حميدة في شخصية «جو» بفيلمه «الباشا» ليبين الاختلافات التي طرأت علي «البلطجي» فلم يعد الشخصية المتجهمة العنيفة.. اجاد العمالقة الكبار في تجسيد شخصية الشرير واضافوا لها ابعادا أخري وتفاصيل وضحت كثيرا من ملامحها ، لكن الجيل الجديد، كان له أيضا اضافات لا بأس بها.
تراجعت شخصية البلطجي في فترة التسعينيات عندما زحفت الكوميديا علي الاخضر واليابس، واحتل المضحكاتية المشهد السينمائي، لكن بعد أن هدأت الأمور، عاد تقديمها مرة أخري دراميا, ، ففي «الغابة» 2007 للمخرج أحمد عاطف كانت شخصية «التوربيني» الذي جسدها باسم سمرة، تواكب العصر الذي يعيشه شخصية عنيفة لا تقبل النقاش معدومة الضمير سريعة الانفعال والغضب. يديه وسلاحه هي الاقرب إليه للتفاهم، وكذلك شخصية «عشري» الذي جسدها عمرو واكد في فيلم «دم الغزال» الذي كان يستخدم «مطوته» لحل مشاكل أو للتفاهم مع خصومه. ثم يأتي «حاتم» لخالد صالح في فيلم «هي فوضي» للمخرج يوسف شاهين ليمارس طقوس البلطجي وإن كان داخل اطار السلطة والمشروعية, ومع ظهور محمد رمضان في عبدة موته والالماني وقلب الاسد, بلغت أدوار البلطجة أسوأ أشكالها وأهدافها, فلم تسعي سوي للترويج للسوقية وانحدار الأخلاق.