نبيلة السيد.. لغز من ألغاز الكوميديا في مصر
نالت شهرتها وانتشارها ومكانتها بالمجهود الكوميدي، صنعت حالة كوميدية اصابت الجميع بالاندهاش.
النابه يلمح بسهولة ومضات الذكاء والطيبة في عينيها.. سرعة البديهة المغلفة بالسخرية والقدرة أيضا علي التحدي في أحلك الظروف, لا تسرف من مخزونها الطبيعي التي اكتسبته من رحلة الحياة, كانت تدخر اضعافه بحثا عن دور ضن به البخل وضيق الأفق.. في التصنيف الرسمي يذكر أسمها علي استحياء, لكن الأشرطة الفنية تحوي علي خزائن الموهبة التلقائية والعفوية المصرية, صعدت سلم النجومية وكان بلا حدود آمنة لكنها استطاعت أن تبلغه دون أن تتأرجح أو تهتز من تحتها قدميها.. ربما يكون الكوميديانات الكبار, والكبار فقط, يدركون جيدا امكاناتها ويتحاشون الصدام الضحكي معها.. قد يستعينون بها لتفرش لهم أرضية يحصدون من خلالها الاعجاب والتصفيق, ولا تبخل وتعطي أكثر مما يتوقعون.
لغز من ألغاز الكوميديا في مصر, وسؤال محير شديد الصعوبة, لماذا لم تأخذ هذه الطاقة المتفجرة بالضحك نصف حقها؟, رغم أن انصاف الاراجوزات اعتلين الافيشات والتترات, الكوميديا عندها ليست ايفيهات خارجة عن النص, او اجتهادات شخصية في الاضحاك, أو حتي مخزون من النكات والقفشات.. هي حالة كوميدية خالصة تكشف عن نفسها من دون كلمات, تكفي نظرة, ايماءة, او مصمصة شفاة, كلها أدوات تستخدمها في توقيت عبقري يحرق أي محاولات للانقضاض عليها من قبل المهرجين الكبار والصغار, استحوذت علي شهرتها وانتشارها ومكانتها بالمجهود الشخصي ومن خلال أدوار كتبت باستعجال وبلا تروي, وفي الغالب كانت مشاهد ميتة باهتة أعادت لها الحياة بسهولة شديدة وبلا أي انفعال أو مبالغة ولم تستخدم التسول التمثيلي في انتزاع الضحك السقيم من شفاة مجاملة أو مشفقة..عندما تطالعك علي الشاشة تستشعر الثقة في امكاناتها لأنها تؤدي من أسهل طرق الأداء وأصعبها وهي الطبيعية والاريحية وبوعي شديد وذكاء متقد لا يرتكن علي الاخرون, بل في أغلب الأحيان كانوا يعتمدون علي طلتها لإزاحة غبار المشاهد السخيفة وتحويلها إلي حالة من المتعة والفكاهة.. هي "لعيبة" كوميديا من طراز استثنائي, لأنها لم تعتمد علي اكسسوارات شكلية أو صوتية أو حركية, لم تصنعها النصوص الجيدة لكبار المؤلفين والتي كانت تذهب للاخريات, ولم يكتب لها أسطوات الكوميديا أدوار تفصيل.. أنها القديرة نبيل السيد (7 أغسطس 1938- 30 يونيو 1986).
قولا واحدا لم تأخذ نبيلة السيد ما تستحقه رغم براعتها في الكوميديا والتراجيديا علي حد غير مسبوق, ربما يكون الاهمال المتعمد من السادة المنتجين قد يدفع بعض الطاقات العظيمة إلي الاكتئاب والانزواء, خصوصا إذا كانت اسباب هذا النكران غير معلومة أو منطقية, وأن السطو علي مساحات من أدوارهم يتم لصالح ارضاء غرور هلاوس النجومية في مشاهد مملة, في حين أن ظهور هذه المواهب العظيمة – نبيلة السيد- يبعث في الكادر المتعة والشغف, وكثير من الأعمال لم يبق منها سوي طلتها الجميلة وخفة ظلها.. ولولا المثابرة والنضال والقدرة علي الاحتمال ما تحمل الكثير منهم الأمر, ولكننا حرمنا منهم وحرموا الفن من ابداعاتهم, ورغم أن حب الفن هي الغاية المثلي لنبيلة السيد وغيرها من المبدعات, لكن مثل في الوقت ذاته "لقمة العيش", والرفاهية بالامتناع ورفاهة الاختيار لم تكن متاحة, في وجود مقابل مادي بالكاد يكفي متطلبات العيش والمظهر.
أعمال كثيرة قدمتها نبيلة السيد في المسرح والاذاعة والتليفزيون والسينما تنوعت بثراء موهبتها وإمكاناتها والمتميزة, والتي لم تخضع للتكرار والنمطية في الأداء, وهي حالة كوميدية بحتة, فما يعوزها للاستسهال وهي تملك مخزون تمثيلي هائل وقدرة علي الاقناع والنفاذ بأداء ملهم ومتنوع دون سقوط "لقطة" واحدة من خلال الأدوار الثانية والثالثة التي تصدت لها, فكان حضورها معلوما بعلم الادهاش والابداع, ولم يكن تحصيل حاصل أو سد خانات فارغة في أعمال مهلهلة, بل الأصح أنه كان يسد نقصا عند من تصدرت اسماؤهم الافيشات, وسطون علي مساحات في الشريط الفني بغير حق وبواسطة الدخلاء.
نبيلة السيد
استعراض أعمال نبيلة السيد التمثيلية ثري للغاية وملهم, رغم أن أعمال كثيرة كانت مساحة أدوارها محدودة لكن حضورها كان طاغيا وكاشفا عن قدراتها, فقد بدأت مسيرتها من خلال بعض المشاهد المتناثرة هنا وهناك, ما لبثت حتي اتسعت قليلا, وعندما بدأ ينتبه إليها المخرجون في محاولة للاستفادة من مواهبها التي لم تكن خافية عن الجميع أدركها الرحيل, تتكشف موهبة الفنان عندما يقف أمام نجوم كبار وينجح في خطف أنظار الجماهير وشد انتباههم في حضرتهم, وهو أمر يسير ومتكرر في مسيرة نبيلة السيد (صيام صيام, عيلة الدوغري, اخو البنات, كابتن جودة, القطار, غريبي في بيتي, اين عقلي, قضية عم أحمد, عصر الحب, فوزية البرجوازية, ابي فوق الشجرة, البحث عن فضيحة, اين عقلي, يارب توبة, الكل عاوز يحب, وبالوالدين احسانا- العش الهادي, خدعتني امرأة, اعدام طالب ثانوي, حدوتة مصرية), وأحيانا تصنع حالة تمثيلية تصيب المتفرجون بالاندهاش من خلال المشاهد المشتركة, دورها في "الراقصة والطبال" ومشاهدها مع عادل أدهم التي تعتبر أجمل ما في العمل, وبالبرجوع للفيلم يكتشف المتفرج حضور طاغ في حضرة البرنس والامبراطور ونجمة مصر, وكذلك دورها في "سواق الاتوبيس" مع وحيد سيف, المصراوية الجدعة التي لم تبهت شخصيتها في بورسعيد, أما في "البحث عن فضيحة" لازلنا نذكر مقولتها "طخه يا بوي بس متقتلوش", كما عملت مع امين الهنيدي في المسرح والاذاعة في أعمال مشتركة, لكن اكبر مشاركة كانت من قبل محمد رضا الذي قدما كثير من الأعمال الفنية الناجحة والتي لاقت انتشار واسع (رضا بوند, عماشة عكاشة, ملوك الضحك, ممنوع في ليلة الدخلة, الزوج المحترم, ملك التاكسي, عماشة في الادغال, الزوج المحترم, امبراطورية المعلم, شياطين إلي الابد).
كان لنبيلة السيد صولات وجولات مع المخرج حسن الإمام الذي كان يسند لها العديد من الأدوار في أفلامه الجماهيرية, وأغلب الظن أنه كان يفسح لها المجال لتفرج عن إمكاناتها الكوميدية بعيدا عن وصايا النص المكتوب, وهو الأمر الذي جعلها مختلفة في أفلامه, (صائدة الرجال, بياعة الجرايد, دلال المصرية, بنت بديعة, امتثال, خلي بالك من زوزو, السكرية, حكايتي مع الزمان, سلطانة الطرب).
ولدت في حارة الشواربي المتفرعة من شارع محمد علي بمدينة القاهرة، وكان والدها يعمل كمتعهد حفلات ويملك محلًا للآلات الموسيقية وكانت تعمل مع والدها منذ الصغر كمغنية في حفلات الزفاف. اشتركت في سن صغيرة في فيلم "غزل البنات" (تلميذات الفصل), تزوجت من رجل اعمال وانجبت منه ولد وبنت, ثم تزوجت بعد ذلك من الملحن حسن نشأت بعد قصة حب استمرت 10 سنوات, وظل بجانبها في محنة المرض. بغياب نبيلة السيد يفتقد المشهد الكوميدي الكثير من توهجه, رغم ظهور كوميديانات مجيدات كان يمكن أن يحققن نجاحات كثيرة, لكن انتشار الفضائيات ومواسم المسلسلات, طغي علي الموهبة وحولهن إلي ماكينات تمثيل افتقدن للتأني والابداع, وبدت الهرولة ايقاع يعيشون من خلاله, لذلك ونحن نكتب عن نبيلة السيد نتحسر علي هذا الزمن الذي كانت روح الهواية دربا اجباريا سرن فيه ولم يتراجعن.