حكايات من زمن فات: لقاء العمالقة.. الريحاني وليلى مراد ويوسف وهبي وعبدالوهاب
بينما يقوم المخرج أنور وجدي بتصوير مشاهد فيلمه الخالد "غزل البنات" تنتاب حالة من الحيرة استاذه نجيب الريحاني، الذي يساوره الشك فيما تم انجازه، ولأن المخرج يدرك تماما أن ما تم انجازه تجاوز مراحل الجودة والتميز, أراد أن يبث الأمل في قلب استاذه بعرض بعض المشاهد.
وعندما شاهدها "الريحاني" كتب هذه الكلمات: "هل وفقت في ان اسيطر على الستار الفضي بمثل القوة التي منحتني اياها خبرتي ومواهبي في السيطرة على زمام التمثيل المسرحي؟.. اعتقد انني لم اوفق تماما ... وكثيرون ممن يعرفون الريحاني قد يشاطرونني ذلك الشعور.. ولكن ...ألم تنل افلامي قسطا وافرا من النجاح؟ - نعم ..انها حازت هذا النجاح، ولكن في نظري انا، كان نجاحا ناقصا لانه لم يظهر تلك الجهود التي بذلتها من صدق العاطفة، وحسن الاداء، حتى انني احسست ان ضوء الستار الفضي انما هو كضوء القمر .. جميل، ولكنه بارد لا حياة فيه ثم شاءت الظروف .. واجتمعنا .. وكلنا ممن اخلصوا لفنهم، فانسجمنا واستمال ذلك الضوء الفضي الى شعاع منعش كله حياة .. وكله حرارة .. تحقق الحلم المحبب الى نفسي ..الحلم الذي وهبته حياتي .. شعرت بوجود عشاق فني امامي، شعرت بانني انفذ بسهولة من وراء الستار فأصل الى قلوبهم واصيب مشاعرهم.. هذا ما جال بخاطري عند مشاهدتي لبعص مناظر من الفيلم غزل البنات الذي اعده واخرجه عزيزي أنور ..ابني البار ..الوفي .. ستوديو مصر في 3 مارس سنة 1945 .. نجيب الريحاني".
بلغت تكاليف فيلم «غزل البنات « 75 ألف جنيه، منها 20 ألف جنيه لاستوديو مصر الذى تم تصوير الفيلم فيه، كما بلغ عدد من شاهدوا الفيلم خلال الثلاثة أسابيع الأولى من عرضه 95 ألف و127 مشاهدا، وحصلت ضرائب الملاهى خلال الثلاثة أسابيع الأولى من عرضه 5 آلاف و61 جنيها وعشرة مليمات، كما اقترح على بك أيوب وزير الشئون الاجتماعية وقتها عرض الفيلم مرة كل عام، كما أن عبد الحميد باشا عبد الحق كان يشاهد الفيلم يوميا طوال الثلاثة أسابيع الأولى، وتشير المجلة إلى أن أنور وجدى ومحمد عبد الوهاب زارا قبر الفنان نجيب الريحانى فى أول يوم عرض للفيلم ووضعا عليه الأزهار والورود.
تقول ليلي مراد في حوار صحفي: حينما أشاهد فيلم «غزل البنات»، ورغم أننى عشت كل ما فيه وشاهدته مئات المرات فإننى أضحك على المواقف التى جمعت بينى وبين نجيب الريحانى، ومن المواقف التى لا أنساها هو آخر مشهد فى الفيلم، فمن المفروض أن أعود للأستاذ أنور الذى أحبه فى الفيلم وهو يودعنى ويربت على كتفى ويبكى ويمسح دموعه، فكنت فى كل مرة نعيد فيها تصوير المشهد أبكى معه وطبعا من المفروض ألا أبكى بل أكون سعيدة لأننى سأعود لحبيبى، وفى كل مرة كان المخرج يعيد التصوير حتى جاءنى وهمس فى أذنى سائلا : لماذا تبكين هل تحبينه ؟!. وتضيف "ليلى" : والحقيقة أننى لم أكن أستطيع مقاومة دموعى لأننى كنت أشعر بأننى سأفارق نجيب الريحانى بالفعل، وللأسف فقد فارقنا فعلا خلال تصوير الفيلم، وأيضا كان نجيب الريحانى جارى فى نفس العمارة، وذات مرة قال لى جملة لا أنساها أبدا، فقد ركبت معه الأسانسير وعلى الباب قال لى بالحرف «يا بنتى أنا نفسى أعمل فيلم معاكى قبل ما أموت»، فقلت له إننى أتمنى ذلك، لكن لم يخطر ببالى فعلا أن يكون تعاوننا فى فيلم عظيم كفيلم «غزل البنات» وبالفعل عمل الفيلم معى ورحل, وكان مفترضا أن حسب السيناريو أن يذهب للباشا ويقنعه بقبول زواج ليلي من وحيد, لكن القدر لم يمهله من تصوير هذا المشهد, وبالتالي لم يري صدي النجاح الذي حققه الفيلم.
عندما يسأل أي شخص في دهشة عن سبب اختيار فيلم "غزل البنات" ضمن قائمة أفضل مائة فيلم محتلا المرتبة التاسعة.. نتلمس له العذر علي دهشته, بينما في الوقت ذاته إذا أفاض آخر في المديح والثناء مؤكدا أن الفيلم يستحق مرتبة متقدمة عن تلك التي حظي بها, فنحن أيضا نسانده وندعم موقفه, وهذين الموقفين المتناقضين أحد أسرار فيلم "غزل البنات", فالموقف الأول يستند علي أن العمل بسيط في فكرته وتنفيذه واعتمد علي كبار النجوم المشاركين به الذي قادهم بحرفية العبقري أنور وجدي, وهذا حقيقي إلي حد ما, ومجرد اطلالة هذه الكوكبة في عمل واحد هو انجاز بكل المقاييس, ولكن, لماذا لم تنقطع الجماهير عن مشاهدته مئات بل آلاف المرات وهم في حالة استمتاع لكل مشهد من مشاهده علي مدار ما يقرب من 70 عاما؟ والاجابة ببساطة هي البساطة والدقة, الفيلم يمكن أن يصنف علي أنه عمل غنائي صريح, حيث حفل بسبع أغنيات (اتمخطري يا خيل- ابجد هوز- الدنيا غنوة – الحب جميل- ماليش امل- عيني بترف, واخيرا رائعة محمد عبد الوهاب "عاشق الروح"). ويمكن أيضا أن يصنف بإنه عمل كوميدي, فكل المشاهد تتفجر بالضحكات الناتجة عن سوء الفهم, باستثناء المشهد الأخير, وأيضا فيلم تراجيدي لعمق المحتوي الذي كشف عن خيبة أمل البطل في ضياع حبه, فالعمل توليفة متنوعة وشيقة من المواقف والأحداث اختير لها قمم تمثيلية بدءا من الخدم وحتي الأسياد.
يبدو سؤالا ساذجا, هل جاء زمنا تجمع فيه قمم فنية ملكت عبقرية هؤلاء الخمسة, ورغم أن الاجابة قاطعة بالنفي, لكن طرح السؤال اصبح عادة ونحن ننظر إلي تلك الصورة التي جمعتهم في لقطة تاريخية لم يجود الزمان بمثلها.