محمد رشدى "منين اجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه" وهيبة ونعناعة ونواعم وعدوية.. حبيبات رشدي
ظل الناي طوال الرحلة يخرج صفيره وأنغامه علي حافة الترعة، وتحت السجرة، وفي الغيطان المروية بعرق الفلاحين في بلدنا البعيدة الطيبة، المطموسة من الخريطة، ورغم التعب التي رسم خطوط المعاناة علي الملامح، كان الوجه بشوشا شفافا يشبه نيلنا الممتد يغدق الخير في كل مكان، يروي العطشي ويغسل همومهم..
راح محمد رشدي يردد حكايات البسطاء والمهمشين من الفلاحين والعمال والمغرمين وبالأسماء دون أن يسقط أحد، تجول في النجوع والكفور والقري، طاف الموالد والأفراح والشوادر والليالي الملاح يفتش عن حكايات المجروحين والحياري ويقتطف لنا الورود فننعم بها وتصيبه أشواكها التي كانت تزيده اصرار علي تكرار المحاولة، كان صوته الشجي المعبر مهموما برصد تجارب العاشقين والعاشقات في كل أرض تطأها قدماه..
كان رشدي الناطق الرسمي والامين لحكايات عاشقي مصر في كل ربوع مصر بحري وقبلي, يغزل المواقف في مواويل وملاحم ليلقيها في أحضان المعذبين الذين يقفون في طوابير الوجع، يخفف عنهم عذابات الفراق والحاجة، وأحيانا كانت البلسم لأمل قد يأتي، وقد يغيب طويلا.. وأحيانا كثيرة كانت النسمة التي تهب لترطب من وطأة الحر والسقم وقلة الحيلة، وتزيح من فوق كواهل العرقانين الشقيانين مغبات الزمن.
ظل «رشدي» الصوت المسموع في الحقول والمصانع والمصاطب والشوارع الضيقة، يستأنس به الفقراء والكادحين.. يحاور الناس، يسمع شكواهم ويترجمها في جمل أدائية جميلة وصادقة، وكثيرا ما كان يجد لهم حلولا استثنائية لمواصلة الحياة، ظل يوزع الفرحة علي المشتاقين ولم يبقي لنفسه شيئا.. يتسلل صوته من بعيد فتتلقفه السواقي وتستبشر بالخير، فيندفع سريان المياه في الممرات الجافة الضيقه، وتفتح الأبواب المغلقة لتستقبل الفرح المغلف في صوته البديع، والناس لا تحتاج أكثر من ذلك، واحد يخفف عنهم الآلام ويشعر بمأسيهم، يصدقونه ويتعايش معهم، وينطق بالصدق عنهم.
تقف «وهيبة ونعنانة ونواعم» ينتظرن علي الجانب الآخر من الشط الحبيب في رحلة بحثه عن الحلم الجميل والبيت الآمن، تزينن وتجملن وتشورن، وطال انتظارهن للمغنواتي، الذي كان حريصا علي المرور علي كل الأفراح ينشد موال هنا وأغنية هناك، وكلما يطول الغياب فهذا يؤكد حرصه علي ألا يغضب أحد ويرد طلبه.. لكنه في النهاية يأتي محملا بقصص جديدة وهدايا من كل قرية ونجع وشادر ومولد حيث المريدين ينتظرون بشغف وشوق.
ربما جاء إلى القاهرة مترجلا علي قدميه، لم يكن لديه أجرة قطار، أو حتي كروت توصية، لكن حلمه الكبير وإيمانه بموهبته، هما ما جعلاه بعد فترة وجيزة يملأ الأسماع والأنظار، في حضرة العمالقة الكبار (عبدالمطلب وقنديل، وعبدالعزيز محمود، وعبد الغني السيد، وكارم محمود، ومحمد طه) نحت أغانيه في القلوب، ووشم علي الصدور مواويله العذبة، ذهب إلى الناس، ولم ينتظرهم في الأبراج العاجية أو الحفلات الباهظة، بل اقتحم عزلتهم وبدأ في التفريغ عن ابداعاته وكبتهم فتوحد معهم والتصقوا به، ولم ينقطع التصفيق حتي رحيله.
خشي الكثيرون من المطربين، بل حرص بعضهم علي محاكاته وترديد أغانيه، لكن أختام رشدي العفوية، لم تكن تقبل التقليد، فسقطوا وظل هو متربعا علي عرش الأغنية الشعبية، لم يستطع أحد الاقتراب منه، فقد تمكن من فك اللغز مما سهل له اختراق القلوب والأفئدة.. لم يعتمد علي الصدفة أو المبالغة، بل كانت التلقائية والفطرة النقية هما زاده وزواده «ده مغنواتي كل اللي حيلته موالين يا ليل يا عين» كان كالجدول تنساب منه الكلمات لتجد المرفأ البشوش محتضنا كلماته وأنفاسه وموهبته..
نجح «رشدي» في إذابة الجليد المتراكم، ساعده علي ذلك كلمات «الأبنودي» الصادقة المعجونة بطمي الغيطان والمروية بمياه النيل، ولم يكن الملحن العبقري «بليغ حمدي» أقل عطاء، فقد استطاع أن يضفر الكلمات بألحان عذبة ملهمة تمس مشاعر الناس، وجاء رشدي ليؤكد لها شرعية البقاء فتمرح وتلهو وتسكن قلوب السامعين العاشقين.
لقد كان يحمل علي عاتقه إتمام مشروعه الفني الذي اعتمد فيه علي التلقائية، وتوج راويا شعبيا تحمل وحده عبء التعبير عن آلام الناس، وصورها في جمل أدائية بالغة الجمال والبساطة، إن المدقق في كلمات أغانيه يلحظ أنها رغم بساطتها الشديدة، لم يسبقه أحد من قبل في ترديدها، ورغم غرابة بعضها وشيوعه في ذات الوقت، إلا طريقة أدائها جعلها متداولة وبسيطة.