سعاد محمد.. صوت يحلق فى السماء
-عندما غنت " إذا الشعب يوما أراد الحياة" كانت تعلن عن ميلاد الأوطان وثورة البائسين
- "وحشتني" كانت بوابة الشهرة لبدايات كثير من المطربين والمطربات
- تزوجت ثلاث مرات, وانجبت 10 ابناء
ظلت سعاد محمد تحلق فى سماء واسعة تصدح فيها، وكأنها كائن خرافى منفصل عن العالم، تصول وتجول غير عابئة بالتفاصيل الصغيرة التى تصنع الضوضاء أو تلك الأفواه التى تبحث عن كلمات ترددها دون فائدة، لم تكن تجيد سوى أن تخلص لفنها وتحترم جماهيرها، ملكت من الحضور والقوة والشخصية ما جعلها تحتفظ بمكانة لم يرق إليها الكثيرون ممن حلقوا فى سماء الشهرة، ارتضت الانزواء بعدما شعرت بتجاهلنا المتعمد.
سعاد محمد
رغم تمتع سعاد محمد (2 فبراير 1926/4 يوليو 2011) بموهبة متفردة لا يختلف عليها أثنان، فلا أحد يستطيع أن ينكر أنها لم تأخذ ما تستحقه، نعم تتمتع بجماهيرية كبيرة ممن يعشقون الفن الجميل، لكنها فى النهاية كانت أحق بمكانة أكبر وأرفع من تلك التى حظيت بها. نتذكرها دائما عند الإنصات إلى أغانيها، ثم نعاود النسيان الطويل لها، لتفاجئنا مرة أخرى، ونكتشف صوتها الجميل الذى يؤنس قلوبنا ومشاعرنا، ترجمت بأحاسيسها الرقيقة وصوتها الشجى كل معانى الحب والوفاء.
خليط مصرى لبنانى، فالأب مصرى والأم لبنانية ، ولدت فى منطقة تلة الخياط فى بيروت، وقد ورثت جمال الصوت عن والدها عازف الكمان، وعاشت طفولتها بلبنان، عانت كثيرا فى احتراف الغناء حيث لاقت معارضة شديدة من الأهل، ولكن مع الوقت رضخت العائلة لرغبتها، وتعلمت الغناء على يد حبيب الشربتلى الذى علمها أصول غناء الأدوار والموشحات، ثم اجادت تجويد القرآن بمعاونة أحد الشيوخ، وكان للموسيقار توفيق الباشا دور كبير فى تعليمها أصول الغناء الشرقى والتبحر في أسراره.
سعاد محمد
بدأت مشوارها الفنى فى سوريا وتحديدا فى حلب، وتقاضت عن اولى حفلاتها صندوق ملئ بلعب الاطفال، وفى عام 1948 غنت فى سينما "روكسي" فى بيروت ونجحت فى لفت الأنظار إلى موهبتها، تنبه الصحفى والشاعر محمد على فتوح لموهبتها وخصها بالرعاية وسرعان ما خفق قلبيهما ليتم زواجهما الذى دام 15 سنة وأنجبت منه ستة أبناء وبنات ثم انفصلا فى هدوء، كان زواجها الثانى من المهندس المصرى محمد بيبرس الذى رزقت منه بأربعة أبناء، ثم تزوجت من رجل لبنانى لكن زواجهما لم يدم طويلا ولم ترزق منه بأطفال. برعت فى غناء الموشحات التى تحتاج لصوت قادر على النفاذ والتحليق، بعد ان ذاع صيتها وشهرتها فى سوريا ولبنان، فكان الحضور للقاهرة أمرا ضروريا، فى القاهرة تعرفت على المخرج محمود ذو الفقار، الذى اقتنع بصوتها ورشحها لبطولة فيلم «فتاة من فلسطين»، وبدأت اولى خطوات الاحتراف بعدة حفلات ناجحة فى بيروت، ثم قامت بجولات عربية تعرف خلالها الجمهور على موهبتها الغنائية وكانت لم تزل فى سن السادسة عشر.
اشتهرت اغنية «مظلومة يا ناس» اولى اغنياتها ووجدت صدى عند الجماهير، من بعدها اشتهرت لها أغنية «غريبة والزمن»، لتعود بعدها إلى القاهرة وتلتقى المنتجة آسيا داغر، ويتم الاتفاق بينهما على بطولة ثانى أفلامها «أنا وحدى» للمخرج هنرى بركات، وشاركها بطولته ماجدة الصباحى وعمر الحريرى، ثم انقطعت صلتها بالتمثيل السينمائى، وفى عام 1972 يلجأ إليها المخرج حسام الدين مصطفى لتقدم بصوتها أغانى فيلم «الشيماء» ويمثل صوتها اضافة كبيرة للعمل تسهم في نجاحه وانتشاره بأغنيات لمست قلوب الجماهير ونسجت معها علاقة وجدانية ولاسيما وهي تشدو بحب الرسول "صلي الله عليه وسلم"، ويصبح الارتباط بالعمل وثيق الصلة بتلك الأغنيات وهي سابقة لم تتكرر في أي عمل ديني من قبل، وفى عام 1974 تكرر الأمر نفسه مع المخرج حسن الإمام لتقدم أغنية سيد درويش "انا هويت وانتهيت» ضمن أحداث الفيلم، وتنجح فى اعادة طرح الأغنية، وتكتب لها شهادة ميلاد جديدة، ورغم محاولات غنائها من قبل البعض، ظل أداء "سعاد" يمثل تحدي كبير يكشف نواقص الآخريات، لذلك عزف البعض عن التفكير في محاولة غناء "انت هويت" بعدما احتفظت بحق الملكية.
سعاد محمد
طغت الحياة الاجتماعية لسعاد محمد على مسيرتها الفنية وحددت كثيراً من مساراتها، وربما انجابها لـ 10 أطفال يفسر ابتعادها المتكرر عن الساحة الفنية، فلا يمكن باى حال من الأحوال أن تجد وقتا كافيا لمباشرة اعمالها الفنية من مقابلة مؤلفين وموسيقيين والاتفاق على الحفلات ومتابعة أعمالها السينمائية بصورة جيدة وسط هذا العدد من الأطفال، فلو كل طفل احتاج 3 سنوات رعاية فهى فى تحتاج إلى 30 عاما حتى تستطيع التفرغ الكامل للفن، ورغم ذلك استطاعت أن تقدم فنا متميزا، وتهافت عليها كبار المؤلفين امثال بيرم التونسى وعبد العزيز سلام، وقدمت ألحاناً لاشهر الملحنين أمثال : محمد القصبجى ورياض السنباطى وزكريا أحمد ومحمود الشريف ومحمد سلمان وكارم محمود وحليم الرومى وخالد الأمير ومحمد محسن، وهؤلاء جميعاً ادركوا ان صوتها هو خير من يقدم ألحانهم للناس، الوحيد الذى لم يلحن لها من الكبار هو محمد عبد الوهاب، وعندما سئل فى حديث إذاعى قال إن صوتها أكبر من ألحانى، ثم ضحك وأضاف: "لقد حاولت معها، وكل مرة أتصل بها أجدها يا إما حامل أو والدة جديد"، سعاد محمد التى أنجبت عشر مرات، أرّخت بصوتها الفريد لكل مدارس التلحين تقريبا، ودخلت قلوب الناس بدون واسطة لأنها تشبههم وتحبهم.
أبعدها المرض سنوات طويلة عن الفن عشقها الأول والأخير، لكنها كانت تتحين الفرص الشحيحة التى ضن الزمان بالقليل منها لتمارس هواياتها الوحيدة فى إمتاعنا واشباعنا بفن راق، لكننا كنا نطلب المزيد والمزيد، وكانت كريمة لحد السخاء والايثار وظلت تعطى بكل طاقاتها وحسب ما توافر لها من جهد ووقت وعافية.
كعادة العظام كان الالتزام عنواناً كبيراً لمشوارها الفنى، وفضيلتها التى حرصت ألا تكون غائبة يوما من الأيام مهما كلفها ذلك من مشقة ومعاناة، وكثيرا ما تحملت من مشقة ومعاناة، ولكن قدرها الذى ارادت أن تحيا من خلاله، أن تعطى دون انتظار المقابل، لها رصيد كبير من الاغانى العاطفية والوطنية لعل اشهرها أوعدك، وحشتنى، فتح الهوا الشباك، ياحبيبتى ياغالية، مظلومة، من غير حب، يا بخت المرتاحين، بقى انت كدة، الله وعرفت تحب يا قلبى ، هاتوا الورق والقلم ياللى وحشتونى، مين فكرك، مين السبب فى الحب، ومن يسمع أغنية «وحشتني» يدرك أن الفراق والغربة طالت من سعاد محمد الكثير، وادمتها قلبها العليل الذى لم يحتمل كل هذا العناء.
إن تواضع سعاد محمد لم يفقدها شيئا من كبريائها أو اعتزازها بذاتها، بل على العكس كانت تصرح بأنها من أفضل المطربات، كما كانت تعلم جيدا إمكاناتها وقدراتها وحجم موهبتها فى ظل أصوات لا تسمن ولا تغنى من جوع، وهذا لم ينسها أن تصرح بأن أم كلثوم لم تغن أغانى دون المستوى، بل كانت وستظل فوق القمة.. ولأنها فنانة كبيرة كانت تدرك قدر الآخرين وتعرف قدر موهبتهم.
عندما شدت سعاد محمد بقصيدة الشاعر التونسى أبو القاسم الشابى "إذا الشعب يوما أراد الحياة" للموسيقار رياض السنباطى كانت تعلن بصوتها عن ميلاد الأوطان وثورة البائسين، إنها تملك صوتاً يحرض على الحب والخير والعطاء، كما أن اداءها تميز بالمعايشة مع كل كلمة تنطقها، والمتتبع الجيد يدرك كم المعاناة التى عاشتها العاشقة الجميلة سعاد محمد وماذا كلفها حرصها على الحب والحياة والاستقرار.. إن عظمة سعاد محمد أنها كانت تتوحد مع اللحن وتحلق فى فضاء واسع لا يرقبها فيه غير العاشقين الباحثين عن صوت يؤنسهم ويدغدغ مشاعرهم بنغمات شجية رقيقة.
سعاد محمد
مثلت أغانى سعاد محمد جوازاً مروراً للكثيرين من المطربين والمطربات، الذين أعادوا غناءها مرة أخرى مستغلين النجاح الذى حققته، وبالفعل كانت تلك الأعمال فألا حسنا لهم، واستطاعوا أن التواجد على الساحة الفنية من خلال أغانيها.
تأتى النهاية، وقد انهك المرض البدن الرقيق، وتملكت منها الشيخوخة وأصبح الرحيل ميعاد لا رجعة فيه، لكن صدى الصوت مازال يصدح فى السماء ويردد "أنا هويت وانتهيت وليه بقى لوم العزول".
سعاد محمد