عبد الوارث عسر.. ظل يعمل حتي بلغ من العمر تسعون وحفظ القرآن وسجله بصوته
منذ أن أدرك وعينا فن السينما، وتنبهت عيوننا لهذا الاختراع المدهش، وحتى السنوات الأخيرة من القرن الفائت تجلت صورته أمامنا على هذا الشريط السحرى جالساً على سجادة الصلاة .. ممسكاً مسبحته .. متلفحاً ببردته .. يتلو من كتاب الله، أو يلقى علينا النصائح والأقوال السديدة التى لا تنفصل عن هيئته السمحة الوقور.
عاصر البدايات وشارك فى صنعها، تتلمذت على يديه أجيال كثيرة بلغت ذروة النجومية، وبقى هو فى مكانته الرفيعة، الأستاذ والمعلم الذى يلقى على تلاميذه الدروس الأولى فى الإلقاء والتمثيل، شارك محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش حتى عبد الحليم حافظ، وزامل نجيب الريحانى ويوسف وهبى ومحمود المليجى حتى نور الشريف، وتواصل مع الريحانى وفؤاد المهندس وصولا لعادل إمام، إنه حكيم السينما وشيخها الوقور عبد الوارث عسر.
عبد الوارث عسر
نشأ "الجد" عبد الوارث عسر فى حى الجمالية، وتذكر كل المراجع والكتب أنه من مواليد (1884) لكن حفيده الفنان محمد التاجى ذكر فى حديث عن جده أنه من مواليد (1894)، ونعتقد أنه الأقرب للصواب، حيث إنه شارك أمام عبد الوهاب فى فيلم «دموع الحب» عام 1935 ومن غير المنطقى أن يكون عمره حينذاك 51 عاماً، أو أن يكون عمره 72 عاما فى فيلم «شباب امرأة» الذى أنتج عام 1956والاقرب للواقع ان يكون 62 عاما.
حصل عبد الوارث عسر على شهادة البكالوريا من مدرسة التوفيقية، والتحق بكلية الحقوق ليصبح محامياً مثل والده، لكنه ينصرف عن الدراسة ويتجه لرعاية الأرض التى تركها والده، يشتد ولعه بالفن فينصرف عنها ويتجه للمسرح ويلتحق بفرقة جورج أبيض عام 1912، ويتولى تدريبه فى ذلك الوقت الفنان منسى فهمى الذى شاركه فيما بعد فيلم «صراع فى الوادى» فى دور الشيخ عبد الصمد الكفيف، ثم يلتحق بعد ذلك بفرق عبد الرحمن رشدى ومنها لفرقة عزيز عيد وفاطمة رشدى، واستطاع فى هذه الفترة أن يكون مع صديق عمره سليمان نجيب جمعية أنصار التمثيل والتى انضم إليها كثير من الشباب فى ذاك الوقت، ثم قام الاثنان معا بتأليف بعض المسرحيات وترجمة العديد من الأدب العالمى وتمصيرها، ثم شارك صديق عمره الآخر محمد كريم فى كتابة العديد من سيناريوهات الأفلام السينمائية منها (ناهد، زينب، أمانى الحب، دليلة)، ثم كتب سيناريو فيلم (توبة وجنون الحب) الذى نال عنه جائزة السيناريو الأولى.
عبد الوارث عسر
فرضت عليه ملامحه القيام بنوعية أدوار واحدة، تأرجحت جميعها حول شخصية الرجل الطاعن فى السن، فمنذ شبابه ومع أول اشتغاله بالفن ساقته الظروف لذلك، ولم يتخل عنها أبدا، والسبب يرجع للمخرج عمر وصفى الذى أسند إليه فى إحدى المسرحيات دور أب وهو لم يتجاوز العشرين من عمره، ثم التصقت به هذه الشخصية مع الوقت، ولم يتمكن من الفرار منها، وإن كان أداؤه المتنوع فى تقديمها وحرفيته العالية ساعداه فى عدم الوقوع فى قالب نمطى واحد، وأن يتبوأ مكانة رفيعة وسط جيل من عمالقة التمثيل هو يستحقها طوال تاريخه الفنى الذى امتد لأكثر من سبعين عاما.
عبد الوارث عسر
تميز عبد الوارث عسر بملامح تحض على الوقار والاحترام، فإذا ما تصدى لواحدة من هذه الشخصيات بدا الأمر هينا لأنه يضفى عليها بما يملكه ويجعلها تمر بسلام، ولكن عندما تلقى به ظروفه ليتصدى لشخصية لا تتناسب مع هذه الطلة التى تشف طيبة وتواضعاً فأن الأمر يستوجب التوقف لنرى النتيجة، جاء ذلك من خلال "حسبو" فى فيلم «شباب امرأة»1956 أمام تحية كاريوكا وشكرى سرحان للمخرج صلاح أبو سيف، عندما جسد دور رجل سكير يهيم حبا فى "شفاعات" التى سلبته شبابه وارادته، وفى مشهد بارع يكشف فيه إمكاناته التمثيلية المذهلة، محاولا استمالة جبروتها وعصيانها واخضاعها لسطوته مذكرها بأيامهما معا فى الماضى، ولكنها لا تستجيب له، فالرجل لم يعد يملك إلا الحطام التى لا تشبع رغبات امرأة فى عنفوان الأنوثة والرغبة.
عبد الوارث عسر
وفى فيلم «صراع فى الوادى» 1954 للمخرج يوسف شاهين تتجلى عبقريته فى مشهد يجمعه بعمر الشريف من خلف قضبان السجن عشية اعدامه، وهو يحاول ان يخفف عليه وقع ما حدث، فى مشهد لم يبدع ممثل من قبل فى إخراجه بهذا الشكل العبقرى وفى أداء فاق الطبيعية، حينما يكاد يستجمع نبرة صوت تختنق وتشق أعماقه شقا، وبنظرة تحمل انكسارا وظلما وبدموع متحجرة ترتعد من مصيرها، لتخرج الكلمات متوسلة فى آخر لقاء بين ابن ينتظره الثأر وأب ينفذ فيه الحكم الإعدام بعد ساعات قليلة، وفى حالات نادرة جدا جسد "عبد الوارث عسر" أدوار الشر فى فيلم «الأرض» 1970 فى دور العمدة الذى يقف ضد أبناء قريته ويزج بهم فى السجون، وأيضا فى فيلم «عنتر ولبلب» أمام سراج منير ومحمود شكوكو ، أما فيما عدا ذلك فكان الرجل يقدم أدوارا تتصف وسماته النبيلة، حيث إنه كان يتم الاعتماد عليه فى المشهد الواحد خلال العمل الفنى، كما حدث فى فيلم «لحن الوفاء» والمشهد الذى جمع بينه وبين حسين رياض، وفى فيلم «الأخوة الاعداء» وفى مشهد يجمعه بـ يحيى شاهين ونور الشريف وحسين فهمى وسمير صبرى، نراه يلفت الانتباه ويجذب الاذان حينما يردد قولته "البداية غلط يا ارمانى ..دى بداية حرب مش صلح" ثم يهم بالانصراف بعد ان استولى بطبيعيته على المشهد فى حضرة هذا الجمع المخيف من المبدعين الكبار.
وفى فيلم «الجبل»1965 للمخرج خليل شوقى يجسد دور عمدة الجبل القابع بين الصخور رافضا النزول إلى البنايات حالما بالكنز، ومحرضا أهل القرية على عدم الرضوخ لرغبات الافندية، بأداء سلس هادئ وانفعالات عميقة تحمل القسوة والملاحقة وبها قدر من الرضا لأى مصير ينتظره.
عبد الوارث عسر
لم يقتصر عمل عبد الوارث عسر على التمثيل فقط، بل كان يقوم بتدريب العديد من الفنانين على التمثيل والإلقاء مثل عماد حمدى وشادية وسميرة احمد ونادية لطفى وماجدة الخطيب، كما كانت له إسهامات فى الكتابة الإذاعية والمسرحية والسينمائية.
عمل بالصحافة من خلال جريدة الشعب الذى كان يكتب بها يوميات تحت اسم (الشيخ خميس) يناقش من خلالها المشاكل الحياتية التى يعانى منها المجتمع.
وقام بكتابة أربع مسرحيات، وكذلك تأليف كتاب حول "فن الإلقاء" يدرس حتى يومنا هذا بالمعهد العالى للفنون المسرحية، كما كان يلقى محاضرات حول فن التمثيل بالمعاهد الفنية داخل وخارج مصر، وله ديوان شعر صدر عن الهيئة العامة للكتاب. لم تختلف حياة عبد الوارث عسر عما كان يقدمه، فتربيته المتدينة وحفظه للقرآن الكريم الذى سجله كاملا بصوته، كان الستار الواقى من أى شوائب قد تعترض طريق من يعمل بهذا المجال، تزوج من ابنة خالته وأنجب منها بنتين هاتور ولوتس، لديه شقيقة تدعى سنية وأخ عمل بالفن هو حسين عسر الذى جسد دور أبو سعاد حسنى فى فيلم «حسن ونعيمة»، لديه حفيد يعمل بالفن هو الممثل محمد التاجى، ظل عبد الوارث عسر يعمل حتى جاوز التسعين من عمره ولم يقتصر إبداعه فى تلك السن المتأخرة بل كان متوهجا كعادته واشترك مع عادل إمام فى مسلسل «أحلام الفتى الطائر» 1978 و«أبنائى الأعزاء شكرا» أمام عبد المنعم مدبولى 1979، أما آخر أفلامه فكان أمام فاتن حمامة وعزت العلايلى «ولا عزاء للسيدات» 1979.
عبد الوارث عسر
عاش الرجل الحياة فى هدوء وسكينة وتصالح معها، لم يختصمه أحد ولم يختصم أحد، يمد يد العون لكل سائل، وطوال هذه السنوات التى عاشها بالوسط الفنى لم تلتصق به شائعة أو تحوم حوله شبهة أو ضغينة، فقد كان رحمه الله عف اللسان، حلو الكلام، ترتسم على وجهه السماحة والطيبة والرضا بما قسمه الله، وعندما يرحل شيخ السينما الوقور وحكيمها الوعر يترك فراغا كبيرا ليس فقط فنيا ولكنه أخلاقيا وإنسانيا.
عبد الوارث عسر